ينبش الكتاب الجديد لمحمد مصطفى القباج “المسرح والفلسفة..بعض من تجليات صلات وثيقة” في الجسور التي انبنت منذ العصور القديمة بين التنظير الفلسفي والإبداع المسرحي، تأثيرا وتأثرا.
ومن موقعه المزدوج كباحث في الفكر الفلسفي من جهة وفي تاريخ المسرح من جهة أخرى، يبدو القباج مؤهلا لاستجماع العناصر المشكلة لهذه العلاقة الوثيقة التي تغذت على مدى قرون من اجتهادات الفلاسفة تفكيرا في الوجود والحياة وإبداعات المسرحيين وهم يجعلون الركح بؤرة لتعميق النظر في الاسئلة المؤرقة للانسان، باختلاف الأمكنة والأزمنة.
في الكتاب الصادر عن دار أبي رقراق في 282 صفحة، يجد القباج من اللافت للنظر أن الفلاسفة، ومنذ العصر الاغريقي، كانوا وما يزالون يتخذون من المسرح ومتعلقاته موضوعا لتأملاتهم وتقييماتهم، وكان أهل المسرح يستوحون مضامين أعمالهم مما يطرحه الفلاسفة من القضايا التي تشغل بال الأفراد والمجتمعات، بل وحتى من خصوصيات المعرفة الفلسفية التجريدية وفروعها التي تتصدرها الميتافيزيقا والانطولوجيا والمنهجيات والجماليات والأخلاقيات.
إن ما بين المسرح والفلسفة من الصلات الوثيقة والمراوحات أخذا وعطاء، يقول القباج في تقديم كتابه، “بثت في العطاءات المسرحية أنفاسا فلسفية، وأصبح لأهل المسرح اقتناع بأنه لا مسرح دون مرجعية فلسفية، وفي المقابل أسهم المسرح في توسيع قاعدة المستوعبين للفلسفات وأنساقها وقد بسطت لهم أفكارها ومفاهيمها وبراهينها، وفكت ألغازها “.
ويقول الكاتب إن بحثه في الموضوع قاده الى الاطلاع على حوالي مائة كتاب تتخذ هذا التفاعل موضوعا لها، انتقى منها أربعة أسعفته في تبين بعض تجليات الصلات العريقة بين المسرح والفلسفة. هي منطقة تماس تجعل الفلسفة تبحث في المسرح في الحركات المشهدية كتجسيد حي للأفكار، ذلك أن الفلسفة وهي تتعامل مع المسرح تنطلق من موقعها كمعرفة تجريدية، على عكس المسرح فهو حين يستوحي من الفلسفة بعض تأملاتها يحولها الى مواقف حياتية تعتمد بالأساس حضور جسم الممثل فوق الخشبة.
تتجلى علاقات الفلسفة والمسرح في نظر القباج في مستويات عدة. ومرد ذلك أن “المسرح انتاج مركب، فهو لغوي ومعرفي أدبي وتقني، ويشكل موضوعا للتفلسف بصلة وثيقة. هذا ناهيك عن الأصول التاريخية والطقوسية والمحفلية للمسرح، والتي لها علاقة بالنظرة (الميثية) للطبيعة والانسان والتاريخ، أو الفرجة الأولمبية أو بالظاهرة السقراطية”.
يوضح القباج أنه منذ اللحظة التي انبثق فيها المسرح من رحم الأسطورة والاحتفال، تجلت علاقته بالقضايا التي شغلت بال الفلاسفة الأول، وعلى رأسها قضية الوجود. المسرح طريق تعبره الفلسفة للظهور والتحقق عبر تجسيدها من خلال اللغة الحوارية فوق الخشبة. تحضر فيها قضايا الوجود والأخلاقيات والجماليات وغيرها.
إن نجاح المسرح في تبسيط المضامين هو الذي جذب اليه الكثير من الفلاسفة الذين وجدوا فيه الوسيلة الأمثل لتبسيط وترويج أفكارهم وأنساقهم، ومنحها دفء الحياة ومسحة الجمال. المثالان البارزان هما ألبير كامو وجون بول سارتر، اللذان أنتجا أعمالا مسرحية تناولا فيها مشاغلهما الفلسفية. مقابل تنظيرات أرسطو وهيغل وكانط، ترتسم على المسرح أعمال بريشت وبيكيت ويونيسكو.. المسرحي والفيلسوف قران قديم لانهما يقتسمان نفس الطموح في الاهتداء الى الحقيقة.